رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
محمد الباز

زمن التكتيك.. هل دمر «العلم» سحر كرة القدم فى المونديال؟

كرواتيا والبرازيل
كرواتيا والبرازيل

فى مونديال الدوحة فاز "التكتيك" وخسرت المهارات وجماليات كرة القدم، حضر العمل الخططى واختفت "الارتجالية" كثيرًا، برزت المنظومات واختفت الفرديات أكثر. قلنا هذا الأمر منذ نهاية الدور الأول وما جرى فى المجموعات، وبرهنا على ذلك بعدة أمثلة، على رأسها طريقة لعب هولندا مع فان جال، الذى نحى هوية "الطواحين" جانبًا، ولعب بشكل براجماتى يناسب أدواته ولا يناسب الهوية الهولندية، ومكنه ذلك من صناعة فريق قوى بلاعبين لم ينتظر منهم الجمهور كثيرًا. 

 

فى مباراة كرواتيا والبرازيل، إذا بدل المنتخبان القمصان، كان من الممكن ألا تشعر بتغير كبير، لن تعرف البرازيليين من الكروات، كلاهما متشابهان، متقاربان إلى حد كبير، والسر فى ذلك أن "التكتيك" قرّب المسافات ورفع من قيمة وأثر التنظيم والعمل الجماعى، مع تقليص دور الفرد ومهارته. 

 

كان مونديال الدوحة تتويجًا لتداخل العلم والتكنولوجيا والتحليل فى أدق تفاصيل كرة القدم، وأخذنا إلى مباريات أقل متعة، ولاعبين أقل إبداعًا، لذا تزايد الحنين إلى الماضى، وبات الجميع يتذكر الآن زين الدين زيدان فى مونديال 1998 ورونالدو الظاهرة فى مونديال 2002، وغيرهما فى مونديالات سابقة.

 

نحن أمام لاعبين ليسوا سيئين، لكنهم ليسوا مبهرين، مثل "ماكينات" تُسيرها أينما تشاء وكيفما تشاء، لذلك ليس مستغربًا أن يمثل لاعب محدود القدرات مثل دانيلو منتخب البرازيل، ويلعب لريال مدريد ومانشستر سيتى ويوفنتوس.

 

لولا الإثارة التى حضرت فى النتائج، وما يحدث خلال الجزئيات الأخيرة فى المباريات حينما تسعى الفرق للتقدم وتغامر هجوميًا فتظهر المساحات وتتاح الفرص للإبداع الفردى، لكانت هذه النسخة مصنفة ضمن الأكثر مللًا، مع التأكيد أنها واحدة من النسخ الخططية الأفضل. 

 

لكن السؤال الأهم هنا: هل دمر "التكتيك" والعلم كرة القدم حقًا؟ رغم أنه لم يندم طوال عمره على شىء، لكنه اليوم وبعد 25 عامًا اعترف المكسيكى خوانما ليلو، مدرب السد القطرى حاليًا، أحد منظرى كرة القدم الحديثة وملهم بيب جوارديولا، بأنه أحد الجناة بحق كرة القدم، وأبدى ندمه للمرة الأولى فى حياته. 

 

يقول "خوانما": "نحن المدربون نتحكم فى كل شىء الآن، كان يجب أن نترك للاعب مساحة ليفعل ما يشاء". حالة صراع قديم تجدد، وفُتحت أبوابه فى اللقطة التى وقف فيها ليونيل ميسى يحتفل أمام لويس فان جال، مدرب هولندا، على طريقة الأسطورة الأرجنتينية "ريكلمى"، الذى طرده مدرب هولندا حينما كان مدربه فى برشلونة، لأنه أراد منه الجرى والتحرك دون كرة، فرفض وقال له إن "اللعبة أسهل من ذلك". 

 

كان الطفل ليونيل ميسى فى بداياته مع برشلونة ما زال متأثرًا بالعقلية اللاتينية التى تؤمن بأفكار "ريكلمى"، ويحب بابلو أيمار، وكل من هو يلعب كرة الشوارع ويجيد فن الحوارى. 

 

إلى جوار بيب جوارديولا جلس «ميسى» وكرر ما قاله "ريكلمى": "الفريق صاحب اللاعبين، الأفضل سيفوز، لسنا بحاجة إلى كل هذه التعقيدات". 

 

وبعد سنوات طوال، عاد "ميسى" يصرح عن دورى أبطال أوروبا بكلمات تاريخية: "الفريق الأفضل لا يفوز بدورى الأبطال". 

 

ما بين عقلية المراهق اللاتينى، وعقلية الأسطورة الخبير صاحب التجارب المتعددة، تجارب كثيرة مر بها ليونيل ميسى وجعلته يغير من أفكاره، فالفريق الذى يضم ميسى ونيمار ومبابى وأشرف حكيمى وسيرجو راموس لا يفوز بدورى الأبطال، ومقولته الطفولية حول "الفريق الذى يضم اللاعبين الأفضل سيفوز" لم تعد حقيقية مثلما توارثها الأرجنتينيون. 

 

هنا الفارق بين "ميسى" الذى أكمل رحلته لأنه قبل بتغيير شخصيته ولعب مهاجمًا وهميًا فى خطة كانت مستحدثة، وقبل بكل تقلبات التكتيك مع تعقيد كبير فى الأدوار الأخرى التى لعبها مع جوارديولا، وضف إلى كل ذلك كان أكثر مهاجم يضغط ويدافع فى شبابه- وبين "ريكلمى" الذى تعالى على الكرة فاكتفى بلمسات ممتعة، وذكريات أقل مما امتلكه من إمكانات خارقة. 

 

وفى هذه الحكايات إجابة أوضح على فكرة «ليلو»، فإن "التكتيك" الذى أضر بـ"ريكلمى" نفع "ميسى" وجعله يفوق دييجو أرماندو مارادونا وكل أساطير الأرجنتين، وباستثناء التتويج بكأس العالم، الفارق بين "ميسى" و"مارادونا" رقميًا، يمثل فجوة كبيرة وسنوات. 

 

لم تكن الأزمة فى "التكتيك" وارتفاع دوره، بل فى تفاصيل "التكتيك" والقائمين عليه، وكيفية استغلال اللاعب الموهوب. على سبيل المثال فى مباراة البرازيل وكرواتيا، لم يتقدم الظهيران "دانيلو" و"ميلتاو" طوال 90 دقيقة، وظل الجناحان "فينسيوس" و"رافيينا" على الخط دون دعم، و"نيمار" يتسلم الكرة فى مناطق بعيدة جدًا، فأصبح عدد مهاجمى البرازيل قليلًا للغاية. 

 

حينما دفع "تيتى" بالظهير "أليكساندرو" وتقدم للأمام، وحول "دانيلو" يمينًا وطلب منه التقدم، وجدنا الجناحين فى العمق خلال لقطة هدف؛ نيمار، رأينا كيف كان الجناح "رودريجو" هو المفتاح الذى انطلق من خلاله "نيمار" عبر "وان تو" شقت الطريق. 

 

حينما تقدم الظهيران، وجد البرازيل الكثافة فى العمق، وأتيح لـ"نيمار" و"ردريجو" إظهار قيمة الفرد و"مهارات الحارة". لم تكن أزمة البرازيل فى أن "تكتيك" كرواتيا محكم دفاعيًا فقط، بل لأن تيتى اختار التفاصيل التكتيكية الخطأ، وتأخر فى التقدم والهجوم. 

 

مهمة "التكتيك" مثلما يقول "جوارديولا" أن تصل بالمهاجم إلى منطقة ما، ومنها يُتاح "الارتجال"، مثلما ارتجل "نيمار" فى المكان المناسب. نعم فاز "التكتيك"، لكنه لم يقتل الموهبة ولم يدمر المتعة. 

 

البرازيل مع هذه الكوكبة من النجوم أمام فريق مثل كرواتيا يحتاج إلى مدرب جرىء بينما "تيتى" كان جبانًا، وكأنه يدرب اليابان، ولا يملك أقوى ذخيرة من المواهب!