رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
محمد الباز

منتخبات صنعت تاريخ اليورو«4».. 2004 وآلهة اليونان الحديثة

منتخب اليونان
منتخب اليونان

أيام قليلة تفصلنا عن بطولة كأس أمم أوروبا في نسختها السادسة عشرة، حيث ستقام النسخة الجارية الاستثنائية للبطولة في عدة دول أوروبية.

بطولة ينتظرها الجميع بعدما تأجلت لمدة عام بسبب انتشار وباء كورونا في العالم.

ودائمًا ما تشهد بطولات كأس الأمم الأوروبية مولد وبزوغ نجم بعض المنتخبات التى تمكنت من تحقيق المجد خلال العرس القاري الكبير.

ويستعرض الكابتن عبر سلسلة تقارير «منتخبات صنعت التاريخ»، أبرز المنتخبات التي تألقت عبر تاريخ منافسات كأس الأمم الأوروبية.

وفي الحلقة الرابعة من السلسلة؛ يستعرض «الكابتن» رحلة المنتخب اليوناني نحو التتويج باللقب القاري الوحيد في تاريخه عام 2004.

صعود المنتخب اليوناني للمجد لم يكن وليد الصدفة؛ ولكن الرحلة بدأت في أغسطس من عام 2001 بعد أن أعلن الاتحاد اليوناني عن تعيين أوتو ريهاجل؛ المدير الفني السابق لفريق كايزر سلاوترن الألماني، مديرًا فنيًا للمنتخب.

المدرب الألماني آمن بلاعبيه؛ قرر أن يضع اسمه في تاريخ بلاد الإغريق؛ فبدأ معهم رحلة تصفيات كأس العالم 2002؛ وأوقعته القرعة في المجموعة الأولى رفقة منتخبات انجلترا، وألمانيا، وفنلندا، وألبانيا.

وافتتح اليونانيون مواجهاتهم بالخسارة أمام ألمانيا بهدفين دون رد؛ ثم الفوز على فنلندا بهدف نظيف؛ وبعدها الخسارة أمام ألبانيا بهدفين؛ والخسارة مجددًا أمام ألمانيا بأربعة أهداف لهدفين في مباراة مثيرة انتهى شوطها الأول بالتعادل الإيجابي بهدفين لمثلهما؛ واستمر التعادل حتى الدقيقة 82 ليسجل ميروسلاف كلوزه الهدف الثالث؛ وينهي ماركو بوديه اللقاء لصالح الألمان في الدقيقة 90.

حتى الآن أبناء ريهاجل لديهم 3 نقاط فقط في المجموعة؛ ولكن منتخب فنلندا كان قاسيًا عليهم في الجولة التالية وضربهم بخمسة أهداف لهدف.

المنتخبان الألماني والإنجليزي متساويان في النقاط؛ 16 نقطة لكل منهما؛ اليونان وألبانيا وفنلندا خارج الحسابات رسميًا؛ لكن ريهاجل أصر على القتال لآخر نفس؛ وقدم المنتخب اليوناني مباراة مميزة أمام نظيره الإنجليزي في الجولة الأخيرة وظل متقدمًا عليه بهدفين لهدف حتى الدقيقة الأخيرة؛ ليتحصل ديفيد بيكهام على ركلة حرة على بعد 45 مترًا من المرمى؛ ويضعها مباشرة في المرمى لتسكن الشباك.

وفي المباراة الأخرى تعادل الألمان سلبيًا مع فنلندا؛ ليتأهل بيكهام ورفاقه مباشرة إلى كأس العالم ويدخل المنتخب الألماني للملحق الأوروبي؛ ويصل بعد ذلك لنهائيات المونديال.

 
يورو 2004.. العائلة تأتي أولًا

رغم فشله في التأهل للمونديال؛ إلا أن المنتخب اليوناني نجح في الوصول لبطولة كأس الأمم الأوروبية 2004 دون أن يتعرض للخسارة في أي مباراة من مبارياته الـ15 بالتصفيات؛ ليصل لـ"يورو" البرتغال.

قرعة المجموعات أوقعت المنتخب اليوناني رفقة منتخبات البرتغال، وإسبانيا، وروسيا.

المباراة الأولى لليونان كانت أمام المنتخب المضيف؛ البرتغال، على استاد داراجاو بحضور جماهيري وصل إلى قرابة الـ50 ألف متفرج؛ وصافرة بيرلويجي كولينا، أفضل حكام العالم آنذاك.

7 دقائق فقط احتاجها اليونانيون للإعلان عن قدومهم؛ جورجيوس كاراجونيس يسجل التقدم؛ شوط دفاعي بحت من أبناء ريهاجل ومحاولات برتغالية؛ كولينا يعلن نهاية الشوط الأول.

6 دقائق أخرى من بداية الشوط الثاني؛ أنجليوس باسيناس يسجل الهدف الثاني؛ كأن زلزالًا قد ضرب أثينا بالفرحة؛ المنتخب الذي خسر بخماسية من فنلندا يتقدم بهدفين على فيجو ونونو جوميز وديكو وباوليتا وسيماو؛ يا إلهي! 

المباراة الافتتاحية انتهت بفوز اليونان بهدفين لهدف؛ بعد أن قلص الشاب كريستيانو رونالدو النتيجة لصالح 
منتخب البرتغال. 


في تلك الليلة؛ لم يقدر أي من المتواجدين في معسكر المنتخب اليوناني على النوم؛ الفرحة كانت هيستيرية؛ الجميع يشاهد إعادة المباراة؛ ويستمعون للتعليق اليوناني على الأهداف.

"هذا الفوز حررنا من الضغط" بكلمات مقتضبة عبَّر فاسيليوس تسارتاس، لاعب المنتخب اليوناني آنذاك، عن تأثير الانتصار في المباراة الافتتاحية على فريقه.

المباراة الثانية كانت أمام منتخب إسبانيا؛ وانتهت بالتعادل الإيجابي بهدف لكل فريق؛ ليتساوى المنتخبين بأربعة أهداف على قمة المجموعة.

ثم في المباراة الثالثة؛ خسر المنتخب اليوناني أمام نظيره الروسي بهدف نظيف؛ وانتصرت البرتغال على إسبانيا لتقلب الموازين في المجموعة وتتأهل في الصدارة وخلفها أبناء أوتو ريهاجل.

"الشيء الأول الذي علمنا إياه أوتو ريهاجل هو أن المنتخب دائمًا يأتي أولًا؛ كنا أقرب بالعائلة؛ لم نكن أحد تلك المنتخبات التي لديها 55 لاعبًا؛ كنا 20 أو 22 لاعبًا؛ وكان المدرب يستدعي لاعب أو إثنين يراقب مستواهم لضمهم؛ ولأننا كنا قريبين من بعضنا البعض؛ كنا مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل بعضنا البعض"؛ تاكيس فيساس؛ لاعب المنتخب اليوناني آنذاك متحدثًا عن تأثير ريهاجل مع المنتخب اليوناني.

نظرًا لتأهله في المركز الثاني بالمجموعة؛ وقع المنتخب اليوناني في مواجهة قوية ضد منتخب فرنسا؛ متصدر المجموعة الثانية.

أوتو ريهاجل علم أن تلك المباراة لن تمر مرور الكرام؛ وأنه يجب عليه التخطيط لها بشكل مختلف؛ فقرر إعطاء  جيوركاس سيتاريديس تعليمات بالمراقبة اللصيقة لتيري هينري؛ وباقي الفريق يأتي خلف الكرة ويدافع بطريقة "دفاع المنطقة" وغلق المساحات.

"منتخب فرنسا مع زيدان، وهينري، وبيريس، وتورام، كان لديهم العديد من اللاعبين الرائعين؛ ولكنني اعتقدت في تلك الليلة أنه بإمكاننا أن نقدم شيئًا مميزًا"؛ تاكيس فيساس متحدثًا عن مباراة ربع نهائي يورو 2004.

المباراة اتسمت بالخشونة بعض الشيء بين لاعبي الفريقين؛ خاصة اليونانيون في مواجهة زيدان؛ الأداء الدفاعي لأبناء ريهاجل رغم قوته وشراسته لكنه لم يمنع خطورة الفرنسيين؛ مع بعض التهديدات كتسديدة ديميس نيوكلايديس؛ والركلة الحرة التي حولها كانستونياس كاستوريناس بقدمه في المرمى وتصدى بارتيز لكلاهما.

وكأن الحظ أراد أن ينصف ريهاجل ورجاله؛ فيهدر هينري فرصة لو تكررت له ألفين مرة سيضعها برأسه في المرمى؛ بيكسنت ليزاروزو ينطلق على الحدود اليسرى لمنطقة الجزاء ويرسل عرضية؛ يرتقي لها هينري وحده ويحولها برأسه نحو المرمى ولكنها تمر بجوار القائم الأيسر للحارس.

الشوط الأول ينتهي بالتعادل السلبي؛ ويبدأ الشوط الثاني لتتزايد معه آمال اليونان في تحقيق المفاجأة؛ ثم في الدقيقة 65 أنجيلوس خاريستيس يخدع ليليان تورام ويوهمه أنه سيتحرك للزاوية القريبة ثم يعود فجأة خطوتين للخلف ويحول عرضية القائد زاجوراكيس في المرمى مسجلًا الهدف؛ وتنتهي مغامرة زيدان وهينري وتريزيجيه لتبدأ رحلة مجد خاريستيس ورفاقه.



قبل تلك البطولة استحدث الاتحاد الأوروبي لكرة القدم نظام "الهدف الفضي" وهو يعني أن الفريق الذي يسجل هدفًا في  الأشواط الإضافية يعلن فوزه بعد نهاية الشوط الذي سجل فيه؛ وليس في وقت تسجيل الهدف كما كان الحال مع الهدف الذهبي.

اليونان في نصف النهائي؛ تاكيس فيزاس يخلف وعده لخطيبته؛ لن يشاهد نصف النهائي من المنزل كما أخبرها قبل البطولة.

"لاتقلقٍ سأكون معكِ قبل الزفاف بفترة كافية؛سأجلس في المنزل لمشاهدة نصف النهائي والنهائي مع الأصدقاء وقطع البيتزا وبعض كؤوس من الجعة؛ ثم سنبدأ الاستعداد للزفاف" تاكيس فيزاس لخطيبته كريستينا بعد أن حددا موعد زفافهما في 9 يوليو 2004؛ أي بعد المباراة النهائية بخمسة أيام فقط؛ فيزاس كان على يقين أن منتخب بلاده لن يدرك أدوار خروج المغلوب؛ وسيودع البطولة قبل نهاية يونيو.

المباراة تنتهي بالتعادل السلبي؛ واليونان والتشيك يحتكمان للأشواط الإضافية؛ وفي الدقيقة الأولى للوقت بدل الضائع بالشوط الأول الإضافي؛ يسجل ترايانوس ديلاس هدف اليونان من ركنية أرسلها فاسيلوس تسيراتاس.
    

وفي نفس التوقيت؛ كان المنتخب البرتغالي يعبر هولندا بهدفين لهدف؛ ويضرب موعدًا مع اليونان في النهائي؛ للانتقام من خسارة الافتتاح.

قبيل المباراة النهائية بيومين؛ اجتمع لاعبو المنتخب اليوناني سويًا؛ إذ كان المعسكر قد بدأ ببعض الخلافات؛ فمثلًا كان أنطونيوس نيكوبوليديس وكونستانتينوس تشالكياس؛ حارسي الفريق لايحدثان بعضهما منذ بداية المعسكر؛ كما اشتكى عدد من لاعبي المنتخب لأوتو ريهاجل، المدير الفني، من معاملة أنجيلوس باسيناس، قائد الفريق؛ وكان القائد نفسه في نزاع مع الاتحاد اليوناني بسبب تأخر صرف المكافأت.

ولكن بعد ظهر ذلك اليوم؛ وبنهاية الاجتماع لم يذكر أحد ماحدث؛ الكل يركز على هدف وحد.. الجميع يريد أن يلمس السماء ويحقق اللقب.

"تناقشنا حول الأمر بصراحة، الجميع كان على يقين أن تلك هي فرصتنا الوحيدة لكتابة التاريخ؛ كنا نعلم أن هذا الحدث لن يتكرر مجددًا؛ وتعاهدنا على تقديم كل شيء للفوز" فاسيليوس تساريتاس، عن الاجتماع الأخير للاعبي اليونان قبيل المباراة النهائية.


دخل الفريقان لملعب ستاديو دي لويز، وبحضور جماهيري قارب الـ63 ألف متفرج؛ شوط أول ينتهي بتعادل سلبي مع محاولات عديدة للبرتغال لتحقيق الفوز.

7 دقائق أخرى احتاجها أنجيلوس خاريستيس ليفرز الأدرينالين في أجساد الـ15 ألفًا الحاضرين في الملعب بل في أجساد كل أبناء بلاده؛ فيحول ركنية نجيلوس باسيناس في المرمى مسجلًا هدف الفوز لمنتخب بلاده؛ ويحقق اليونان لقبه القاري الأول والوحيد في تاريخه.


"ليس في كثير من الأحيان يتمكن لاعبي المنتخبات من تحقيق شيء لبلادهم؛ أهم شيء بالنسبة لنا جميعًا هو أن نحقق أحلام مواطنينا وزملائنا هناك؛ مازال الناس يوقفونني بالشارع ليقولون لي شكرًا، مازلت فخورًا لأن اسمي شارك في كتابة التاريخ" فاسيليوس تسارتاس، عن شعوره بعد فوز اليونان بيورو 2004.

"اليونان القديمة لديها 12 ربًا، أما الحديثة فلديها 11"؛ كان هذا الشعار الذي كتب على حافلة المنتخب اليوناني التي حملت أبطال أوروبا داخل مدينة أثينا في الاحتفال بكتابة تاريخ اليونان الحديث وتربعها مرة أخرى على عرش القارة العجوز؛ بعد آلاف السنين من سقوط الإمبراطوريات القديمة هناك.