رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل صالح سليم إلى الخطيب: «هكذا يعود الكيان»

صالح سليم
صالح سليم

حينما ترك مسكنه الذى ولد فيه بـ«حى الوايلى» فى القاهرة، وانتقل للعيش فى منطقة الدقى رفقة أسرته، بدأ الطفل صالح سليم التعرف على كرة القدم من خلال المشاركة مع الفرق الشعبية التى كانت منتشرة فى الشوارع خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى.
منذ اللحظة الأولى لفت الولد الصغير نظر الجميع، وتهافت كل من يلعب فى منطقة الدقى على أن يجعله عضوًا فى فريقه. مع فريق «شارع عكاشة»، الذى عاش فيه، بدأ «صالح» مشواره فى كرة القدم وتألق فيه بشدة، بعد أن قرر الابتعاد عن مسيرة والده الجراح الكبير محمد سليم، مؤمنًا بأن الساحرة المستديرة هى طريقه.
ظل يحلم وينتظر الفرصة التى تضعه على بداية هذا الطريق، وفى مدرسة «السعيدية» وجد هذه الفرصة، حينما التقطه أحد «الكشافين» وهو فى الـ١٢ عمره، ليذهب به إلى النادى الأهلى، وتبدأ معه مسيرة أهم من مروا على نادى القرن الإفريقى، نجح خلالها فى حصد أكثر من ٧٠ بطولة كلاعب وإدارى تدرج فى كل المهام، بدءًا من مدير الكرة وصولًا إلى عضو مجلس الإدارة ثم رئيس النادى.
فى السطور التالية، ومع قرب حلول ذكرى ميلاده فى ١١ سبتمبر١٩٣٠، نستمع إلى قصص عظيمة عن حياة رجل عظيم اسمه صالح سليم، من خلال مجموعة من اللاعبين القدامى الذين عايشوه وتعلموا منه.

ربيع ياسين: كان يختار المدربين السوبر فقط وينهى الموسم بـ«جلسة حساب» مع اللاعبين

«بطّلنى كورة وخلانى اعتزلت، لكن يعلم الله أننى أحبه أكثر من أى شخص آخر، وأراه أفضل من مر على الأهلى ولن يتكرر أبدًا».. بهذه الكلمات بدأ ربيع ياسين الحديث عن «المايسترو» الذى يعشقه بطريقة جنونية، ويرى فيه الأب والقدوة والنموذج الذى يجب أن يبحث الجميع عن الاقتداء به. يقول قائد الأهلى السابق: «يعتقد البعض أنه بسبب واقعة إجبارى على الاعتزال فى وقت تألقى سأكون غير راضٍ عن المايسترو، لكن الحقيقة علاقتى الرائعة التى ربطتنى بصالح سليم لم تنقطع واستمرت طويلًا حتى بعد اعتزالى».
ويوضح: «كان مكتبه فى شارع ٢٦ يوليو مفتوحًا أمامى طوال الوقت، كنت أحب الذهاب إليه كثيرًا، أستمتع بالحديث معه والاستفادة من نصائحه وطريقته فى التعامل مع الحياة والأزمات، كان نموذجًا فى كيفية مواجهة المشاكل التى قد تواجه أى شخص»، واصفًا إياه بأنه «أذكى إدارى فى تاريخ الكرة المصرية»، ومعتبرًا تكراره يحتاج إلى معجزة. وعن طريقة اختياره مدربى الأهلى الأجانب، يقول ربيع ياسين: «عندما كان يفكر فى التعاقد مع مدير فنى أجنبى كان طموحه كبيرًا للغاية وينظر للأهلى وكأنه يلعب فى أقوى دورى فى العالم وليس الدورى المصرى، لذا كان يضع قائمة بأفضل المدربين المتاحين فى العالم، ولا يرضى بالصف الثانى أبدًا، وعلى سبيل المثال عندما جاء بهيديكوتى مديرًا فنيًا للأهلى كان بين أفضل ٤ مدربين فى العالم، والجميع يعرفه جيدًا لأنه اسم كبير للغاية».
ويواصل: «المايسترو كان يضع فى أولويات اختياره لأى لاعب أو مدير فنى أو إدارى الالتزام كمعيار أول، ثم تأتى الفنيات والمهارات والذكاء»، معتبرًا أنه «أول من أسس نظامًا قويًا محكمًا يقوم على العلم، ما أسهم فى إطلاق فكرة بناء الناشئين والأجيال القوية فى الأهلى، ووضع أسسًا لاختيار المسئولين، فتحول النادى إلى قلعة الذهب والبطولات والإنجازات بفضل هذا الفكر العبقرى». ويكشف عن طريقة تعامله مع اللاعبين، قائلًا: «كان يعاملنا مثل أبنائه، ومع ذلك تحلى بقوة شخصية تجعل الجميع يهاب التعامل معه أو الوقوف أمامه، كان يلتقينا مرتين فقط كل عام، الأولى قبل انطلاق الموسم لتأكيد أهداف الإدارة، وما يجب أن يحققه الفريق الأول فى الموسم، والأخيرة تكون جلسة الحساب بنهاية الموسم».


ماهر همام: رفض الإدارة بالتقارير.. وحوَّل النادى من المحلية إلى العالمية باستخدام الطرق العلمية


يرى ماهر همام، أحد نجوم الجيل الذهبى للأهلى، أن سر تفوق صالح سليم وتميزه عن جميع رؤساء الأهلى وإداريى النادى على مدى تاريخه، هو درايته بالتفاصيل وغوصه بين الخطوط لكشف ومعالجة المشاكل.
ويوضح «همام»: «من المستحيل أن تجد رئيس نادٍ يعيش وسط الجمعية العمومية مثل صالح سليم، فعندما كنت تدخل النادى فى الصباح تجده يجلس بين الجميع ويتناقش مع الجمهور وأعضاء الجمعية العمومية، لذا لا يمكن أن تختفى عنه أى مشكلة، فهو لا يحب سكن الأبراج العاجية والابتعاد عن الأرض والواقع، والاكتفاء بالتقارير المكتوبة».
ويضيف: «قربه من الناس بهذه الطريقة جعله ملمًا بكل الأمور، وكان يدرس المشاكل ويبحث عن حلولها بحكمة، لذا عندما تولى إدارة الكرة بالفريق الأول، كانت البداية الحقيقية لانطلاق العصر الذهبى للفريق، الذى عرف من خلاله كيف يتحول من مجرد بطل محلى إلى فريق يعرفه العالم، ونادٍ سطر صفحات عريضة بين عمالقة كرة القدم فى العالم». يقول: «صالح سليم هو من وضع الأسس والمبادئ والقيم التى انتصر بها على النجوم والأضواء، ولم يخش أى نجم، ولم يهب الإعلام أو حتى السلطة، ومواقفه هذه كانت سر تكوين وصب الأعمدة والقواعد الصلبة التى ظل الأهلى متكئًا عليها طوال تاريخه».
واستشهد بتعامله مع حسام حسن حينما ألقى بالقميص، قائلًا: «أوقفه عامًا رغم أنه أهم لاعب فى الفريق حينها وأهم مهاجمى إفريقيا، وهو ما دشن لمبدأ الأهلى فوق الجميع، وجعل المصير ذاته ينتظر كل من يخرج على النص أو يرى نفسه أكبر من النظام أو النادى». ويختتم: «لم يخسر الأهلى أى معركة خاضها مع أى شخص أو نجم، فى عهد صالح سليم، فقط لأنه عرف الطريق السليم مبكرًا، وبفضله تميز الأهلى عن كل الأندية المصرية، وعمل بطريقة علمية قبل أن تظهر النظريات والدراسات، فهو بعقله كان سابقًا عصره وزمانه وكل من حوله».

محمود أبورجيلة: الزملكاوية يحبونه.. واعتذر لى وأنا ناشئ بسبب احتكاك بسيط

محمود أبورجيلة، واحد من أساطير الزمالك، عاش فترة منافسة قوية مع الأهلى وقت صالح سليم، ومع ذلك يقول: «صالح سليم لم يكن أسطورة الأهلى وحده، بل كان وما زال وسيظل بين أهم أساطير ورموز كرة القدم فى مصر». ويضيف: «صالح سليم كان يتميز بجمال أخلاقه وأنه جنتل مان بشكل رائع فى التعامل مع من حوله»، مستشهدًا بواقعة دالة على ذلك: «كنت فى مواجهة مع الأهلى، فدهس قدمى خلال المباراة دون قصد، لكنى فوجئت به بعد المباراة يأتى إلىّ ليطمئن علىّ، ويعتذر لى عن هذا التدخل البسيط، رغم أنه كان وقتها أسطورة وكنت أنا ما زلت لاعبًا صغيرًا». ويواصل: «ترك هذا الموقف بداخلى انطباعًا رائعًا، فأن يأتى إلىّ رمز الأهلى ويتعامل بهذه الطريقة شىء كبير، تأكدت من صدقه بعد ذلك عندما كنت أستمع لروايات زملائى الأهلاوية داخل معسكر المنتخب».
ويستدل «أبورجيلة» بموقف آخر يؤكد رقى صلاح سليم، وتمتعه بأخلاقيات كبيرة، قائلًا: «فى إحدى المرات كنت أسير فى شارع جامعة الدول العربية، وفوجئت بشخص يركن سيارة فخمة، وينادينا، وإذا بالكابتن صالح سليم النجم الكبير يتوقف لكى يسلم على أبورجيلة اللاعب الصغير، ويمزح معى بعض الوقت». ويختتم: «كان متواضعًا للغاية، ورأيت ذلك حينما جاء بنفسه يزور مجلس إدارة الزمالك، الأمر الذى يعكس ترفعه عن أى شىء، وسعيه للتقارب مع الجميع وإعلاء القيم، والجميع فى الزمالك كان يحبه بسبب هذه المواقف، لذا فإن الأهلى كل أندية مصر فى حاجة لرئيس نادٍ يشبه صالح سليم، فى أفكاره وأخلاقه وفكره الراقى».

عبد المنعم عمارة: رفض رئاسة الجبلاية من أجل القلعة الحمراء

سألنا الدكتور عبدالمنعم عمارة، وزير الرياضة الأسبق، الذي كان واحدًا من أبرز الشاهدين على عهد صالح سليم، وعايش معه عديد المواقف التي وثقت أهم محطات «المايسترو»: «ما الذي يميز صالح سليم عن بقية الإداريين في مجال كرة القدم المصرية؟».
رد «عمارة» قائلًا :« قناعته الكاملة بأهمية العمل الجماعي، وإيمانه بدور الآخرين في دعم المنظومة ودفعها للأمام، ومن هنا كان صالح سليم بارع في توظيف المهارات والارتقاء بها، واختيار الشخص المناسب في المكان المناسب».

وأضاف: «علي سبيل المثال، صالح سليم هو أول من آمن بقدرات حسن حمدي الإداري، راهن عليه بقوة، وتحدى الجميع به، وتوقع له مستقبل كبير في الإدارة، وهو ما تحقق بعد سنوات طويلة، وثبت للجميع بما لا يدع مجالًا للشك أن رهان المايسترو كان صائبًا».
وتابع وزير الرياضة الأسبق: «تميز أيضًا بأنه كان مهمومًا بالأهلي وفقط، لم يكن هناك شيئًا آخر يشغله سوى تطوير الأهلي، والارتقاء به إلى مقدمة الأندية، فهو لم يسعى لمكاسب شخصية، رغم أن الطريق مفتوح أمامه».

وبرهن علي ذلك قائلاً: «عندما كنت وزيرًا للرياضة اجتمعت بصالح سليم في احدى الفترات، وطلبت منه قبول مهمة رئاسة اتحاد الكرة من أجل تطوير المنظومة، لأننا كنا نرى بأن الاستفادة بخبراته وأفكاره إضافة كبيرة للكرة المصرية، فطلب مهلة للتفكير حينها، ثم عاد ليرفض لأنه لا يريد أن يشغله شئ عن قضيته الأولى وهي الأهلي».
واختتم «عمارة» بتوجيه رسالة لمجلس الأهلي حالياً بقوله: «صالح سليم يحبه الجميع ويعشقه، والأهلاوية لم يروا مثله في تاريخ إدارة النادي، لكن تكرار ما قدمه ليس أمرًا مستحيلًا، فقط يحتاج لأشخاص تؤمن بما آمن به، وتعمل بنفس الاجتهاد وحب النادي، وأن تتفرغ لمشروعها وتضغط كل جهدها فيه ويكون قضيتها».

أبوجريشة: صاحب هيبة وَبدل نظرة المصريين تجاه لاعب الكرة

نجم وأسطورة «الدروايش» في ستينات وسبعينات القرن الماضي، علي أبو جريشة، هو واحد ممن عايشوا مرحلة صالح سليم لاعبًا وإداريًا، عند حديثه عن «المايسترو» بدا متحمساً أكثر من الأهلاوية ذاتهم، وقال بعيون وصوت امتلأ بنبرات الإعجاب والافتنان بالأسطورة الراحلة: «هو من بدل نظرة المصريين للاعب كرة القدم».
وأوضح «أبو جريشة»: «كانت النظرة للاعب كرة القدم في مصر قبله شيء وبعده شئ آخر، فلما ظهر صالح سليم بشخصيته الاستثنائية، أصبح لاعب كرة القدم نجمًا وقدوة في المجتمع ومحط اعجاب الجميع»، مضيفاً: «كان قائدًا لم تعرف الملاعب المصرية أحداً بمثل مواصفاته من قبل، راقي في أسلوبه ومعاملاته، قوي وملتزم وصاحب نظام داخل وخارج الخطوط، تراه مرادفًا لفكرة الهيبة والمكانة والرمزية الكبيرة».

ورأى أن واحدة من أفضل السمات التي ميزت «المايسترو» عن الجميع، هي صراحته ووضوحه، إذ «كان واضحًا مع الجميع يقول الحق مهما كانت كلفته وتبعاته، ولا يخشى أحد مهما كان قوته وسلطته».

وخلص إلى أن صالح سليم هو «النموذج للإدارة العملية، التي تنتهج طريق المختصر المفيد، يعرف من أين تنجح وكيف، دون ضجيج كبير، وهو الأسلوب الذي نفتقده كثيرًا، وتعويضه صعب للغاية».

وكشف عن أنه كان محظوظًا بأنه لعب مع صالح سليم في فريق واحد، حينما شارك «المايسترو» ضمن فريق الإسماعيلي في مواجهة مع أحد الأندية الأوروبية في صيف 1968، وهو موقف لا يعرفه الكثيرين، مختتماً بقوله: «كان داعمًا للروح الرياضية ومشجعًا لمنافسه، ومؤمنًا بأن الارتقاء يتم بالآخرين ولا يمكنك أن تعيش في هذه الدنيا بمفردك».