رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
محمد الباز

بلماضي وديبوي.. عزف القيادة الفنية خارج الخطوط

بلماضي وديبوي
بلماضي وديبوي

عندما تتحدث عن أفضل مدرب في أمم إفريقيا لن تجد نفسك في حيرة أبدًا، فأمامك منظومة جمال بلماضي مع الجزائر، المنتخب الأكثر إقناعًا والأبرز من الناحية الجماعية والذي قدم للجمهور الوجبة الأكثر إمتاعًا ولكبائن التحليل الحالة الخططية الأكثر تكاملًا.
«بلماضي» نجح في تغليب نغمة الجماعية بين لاعبيه وتغييب فكرة النجم الأوحد، كما أنه دعم لاعبيه نفسيًا وأعدهم ذهنيا بشكل مختلف عن الجميع، وعندما طلب بعضهم منه صورة، أشار إلى رجاله وقال: «هولاء هم النجوم.. وليس أنا.. فالتقطوا معهم الصور».
منتخب الجزائر مع «بلماضي» أصبح منظما للغاية، فهو الفريق الأكثر وصولًا لمناطق الخصوم وصناعة فرص التهديف، كما جاء مع نظيره السنغالي كأبرز خطوط الدفاع في البطولة أيضًا.
أفكار «بلماضى» تميزت بالتنويع بين الهجوم المنظم والمرتد، وفلسفته في الضغط على الخصوم تغيرت بحسب مجريات المباريات ووفقا لقوة المنافس، لذا كان قارئًا جيدًا طوال الوقت للمباريات ولم يخب ظنه أبدا.
وبين الجميع، كان «بلماضي» أذكى المدربين في استخدام دكة الاحتياطي وإجراء التغييرات في التوقيت المثالي وبالعناصر الأمثل للحالة، لذا قدم لاعبه آدم أوناس إضافات كبيرة في كل مرة دخل فيها إلى الملعب.

ورغم كل المشكلات وحملات التشكيك التي حاصرت منتخب الجزائر في السنوات الأخيرة، حقق «بلماضي» أهم مكتسباته في البطولة وهي استعادة شخصية وهوية «محاربي الصحراء» وإعادة روحهم القتالية.
ولأول مرة، أصبحنا نرى رياض محرز ويوسف البلايلي، الجناحين الهجوميين، يدافعان وكأنها مدافعين بالأساس طوال الوقت، ويعودان للخلف أمام الظهيرين ويلتزمان بأدوارهما المرسومة على الورق، بعدما تحولا إلى قطعتي شطرنج يتحكم بهما المدرب كيفما يشاء.
وبفضل مدربه، أصبح المهاجم بغداد بونجاح أول مدافعي الفريق، وشهدنا مطاردته للخصوم في الأمام بقوة غير طبيعية، وكأنه لا يعنيه إهدار الجهد الذي كان يمكن استخدامه وتوظيفه في الهجوم فقط وعند امتلاك الكرة، كما يفعل كثير من المهاجمين.
ويمكن القول إن كل ذلك يعود لقدرة «بلماضي» على استحضار الشخصية القتالية التي صنعت فريقًا جماعيًا متكاملًا تحقق فيه التقارب الشديد في الأرقام بين جميع اللاعبين، بعدما غابت فكرة الارتكان إلى لاعب بعينه.
فمع الجزائر، سجل «محرز» مثل بديله أوناس 3 أهداف، وجاء «بلايلي» خلفهما بهدفين، فيما لم يكن أي من مهاجمي الفريق أفضل حالًا من لاعب الارتكاز إسماعيل بن ناصر الذي صنع هدفين، لذا جاءت الأرقام قريبة ومتشابهة، لأن الجماعية كانت البطل الأبرز.



ورغم كل ذلك، لا يمكن أن ننسى أن «كان 2019» شهدت أيضا واحدة من أجمل الروايات في عالم كرة القدم يجب وضعها في ذاكرة أمم إفريقيا، هي حكاية الفرنسي نيكولاس ديبوي، المدير الفني لمنتخب مدغشقر.
«ديبوي» الذي ظل يطارد الصعوبات في ملاعب كرة القدم منذ طفولته، والتحق بدوري الدرجة الرابعة في العاشرة من عمره، ثم لعب لعديد الأندية في هذه الدرجة التي لم يغادرها حتى اعتزل كرة القدم.
ورغم ذلك، لم يفقد الأمل في الوصول للأضواء والشهرة، لذا قرر أن يقبل تحديا جديدا، بدأه أيضا بمهمة التدريب من القاع في الدرجة الرابعة، لكن الحظ رافقه هذه المرة، حتى جاءته الفرصة بعد تكليفه بالإدارة الفنية لمنتخب مدغشقر، بعد 40 عامًا من المشقة والعناء.
وفي سن 51 ، نجح «ديبوي» في إجبار الجميع على الانحناء احتراما له، وجعل كل صحف بلاده تكتب وتبرز حكايته التي تعد من أجمل الحكايات سواء في الحياة أو في كرة القدم، بعدما نجح في قيادة منتخب مدغشقر للمشاركة ببطولة أمم إفريقيا للمرة الأولى.
«ديبوي» لم يكتف بهذا فحسب، بل قاد منتخبه عبر أداء رائع للتقدم نحو ربع نهائي البطولة، في وقت ودعت فيه منتخبات كبرى بحجم مصر وغانا والمغرب مبكرا، قبل أن يودع هو.


ورغم ضعف إمكانيات لاعبيه، أصر على لعب كرة قدم عصرية شاملة، سعى بها للاستحواذ وامتلاك الكرة أمام الكبار، حتى أجبر منتخب نيجيريا، صاحب برونزية البطولة، على الخضوع والهزيمة أمامه، كما جعل تونس الرابع يقف في الخلف ينتظر مباغتته عبر المرتدات.
وفي جميع مبارياته، أظهر «ديبوي» امتلاكه مشروعا وفكرا واستراتيجية تمسك بها حتى وهو يودع بشكل يليق به ويعبر عن أفكاره التي أضافت كثيرًا لمنتخب مدغشقر، وربما تضيف لغيرها قريبًا.
منتخب مدغشقر كتب على يد «ديبوي» أول صفحاته في تاريخ «كان»، كما نال المدرب عبره ما أراد بعد عشرات السنين من الكفاح والتعب، بعدما بات اسما معروفا تريده عدة منتخبات داخل القارة، ومن المؤكد أن القاهرة ستظل الذكرى الأفضل في حياته كلها، بعدما فتحت له أخيرًا أبواب الجنة التي ظل يحلم بها طويلًا.