رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
محمد الباز

مانشستر سيتى وتشيلسى.. آن الآوان أن يؤمن جوارديولا برسائل الله «تحليل»

بيب جوارديولا
بيب جوارديولا


"أما الفتى فكان يحلم بكنزه، وبقدر ما كان يقترب من حلمه كانت الأمور تزداد صعوبة، وما كان الملك العجوز يسميه "حظ المبتدئ" لم يظهر قط؛ أنه يعرف أن امتحان الإصرار والشجاعة لمن يسعى لأسطورته الشخصية إنما يجري الآن، لذلك يجب ألا يتسرع وألا يكون نافد الصبر؛ وإلا فاتته مشاهدة الإشارات التي وضعها الرب في طريقه". 

هكذا تحدث الكاتب البرازيلي باولو كويلو، في رائعته الروائية "الخيميائي" عن إشارات الرب؛ ولماذا يجب على من يسعى لتحقيق أسطورته الشخصية أن يلتفت إليها؛ ورأينا إشارات الله لـ"سانتياجو" بطل الرواية بالاستمرار في الرحلة والإيمان بنفسه مستمرة طوال أحداث القصة؛ وكيف يعيد له الأمل بعدما خسر كل ما يملك وعمله بتنظيف الأواني واكتساب الأموال لاستكمال رحلته للبحث عن كنزه.

الأمر ذاته حدث مع بيب، لكنه لم يلتفت لإشارات الله له؛ وحاول أن يطوع كل شيء لتفكيره الزائد وشجاعته رافضًا الإيمان مرة أخرى بوجود الله أو حتى إشاراته؛ ولكن يبدو أن جوارديولا وسانتياجو اشتركا في مصير محتم وهو أن الكنز في الرحلة.

قبل الدخول في التفاصيل الفنية؛ قد تكون عزيزي القارئ ممن يعلمون حقيقة أن بيب جوارديولا، مدرب مانشستر سيتي لا يؤمن بوجود الله من الأساس ويرفض الحديث عنه؛ إن لم تكن كذلك فهذه هي حقيقة الأمر؛ هو أسطورة تدريبية ومجنون بالتفاصيل الصغيرة، والتي يوليها أهمية كبيرة مؤمنًا بأنها قادرة على قلب المباريات؛ ولكن هل نظر بيب من حوله؟ لماذا يخسر نهائي الأبطال بعد كل هذا؟ وبهذه الطريقة؛ هل فكر أن كل ذلك جزء من إشارات الرب له؟

ما علاقة الإلحاد بباولو كويلو والخيميائي؟ وما علاقة ثلاثتهم بكرة القدم؟ وما الرابط بينهم وبين دوري أبطال أوروبا؟ هذا ما سنستعرضه في السطور التالية؛ في تحليل للمباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا بين مانشستر سيتي وتشيلسي، والتي انتهت بفوز تشيلسي بهدف دون رد.

لأن الله لا يغفر كل الخطايا

بالنظرة الأولى على تشكيل مانشستر سيتي، والاعتماد على ثلاثية ستيرلينج وفودين ومحرز في الهجوم وما يترتب عليها من ديناميكية وتغيير في المراكز بين ثلاثة اللاعبين؛ تأكد الجميع أن جوارديولا ضرب موعدًا مع الضغط العالي على الخصم مرة أخرى؛ وهو ما حدث بالفعل.. هجوم كاسح؛ 8 لاعبين من الستيسنز في منتصف ملعب تشيلسي والتاسع والعاشر على خط المنتصف.

تشكيل رغم قوته الظاهرية إلا أنه حمل أخطاءً واضحة من بيب؛ أولها إشراك ستيرلينج في قلب الهجوم على حساب جابريل خيسوس، الذي كان سيمثل عاملًا مهمًا في الارتكان عليه بحالة الكرات الطولية أو إجباره لأحد مدافعي تشيلسي على التركيز معه، لأنه سيتواجد أغلب الوقت داخل المنطقة؛ وبالتالي خلق المساحة لأحد زملائه داخل المنطقة؛ كل ذلك فضلًا عن قدراته الهجومية كلاعب هداف.

أما الخطأ الثاني فكان في الاعتماد على جندوجان فقط في منطقة وسط الملعب الدفاعي؛ لأنه وإن كان في حالته الفنية الكاملة، وهذا ما لم يظهر في مباراة اليوم؛ فلن يكون قادرًا على منافسة ثنائية كانتي وجورجينو وما تقدمه من مجهود بدني عالٍ في دائرة المنتصف؛ وكان من الواجب إشراك رودري بجواره بدلًا من بيرناردو سيلفا.

أكثر ما أثار قلق المتابعين لنسخة مانشستر سيتي مع جوارديولا، هو شكل الفريق وحالته عند فقدان الكرة؛ فـ"سيتي" جوارديولا إذا أجاد التمركز أثناء امتلاك الخصم للكرة؛ وأغلق المساحات سيكون اختراقه أمرًا صعبًا.


ولكن في مباراة الليلة؛ لم يكن رجال جوارديولا على الموعد؛ التقدم المجنون في الهجوم خلف مساحات في المناطق بين الخطوط، وهو ما سبق أن توقعه توماس توخيل؛ فكانت تعليماته واضحة لكانتي وجورجينو باستغلال تلك المساحة أثناء امتلاك فريقه للكرة؛ وكذلك انطلاق ظهيري الجنب خلق حالة من الزيادة العددية على طرفي الملعب، فحرم السيتي من قوة ظهيريه في تقديم الدعم لوسط الملعب.


وكذلك انطلاقات كاي هافريتز وماسون مونت على جانبي ملعب السيتي؛ وخلف والكر وزينشنكو في الحالة الهجومية لتشيلسي خلفت الكثير من الأضرار بسبب التحول السريع من حالة الدفاع للهجوم؛ ودخولهما منطقة الجزاء وإرباك دفاعات السيتي، وهو ما نتج عنه أكثر من فرصة أضاعها تيمو فيرنر، مهاجم تشيلسي.


الارتباك الدفاعي ظهر بشكل واضح في مانشستر سيتي بلقطة الهدف الأول؛ أثناء انطلاق ماسون مونت وتحوله من لاعب وسط أيسر لصانع ألعاب بدخوله لعمق الملعب؛ ثم تحرك تيمو فيرنر على الجانب الأيسر وخروج ستونز خلفه لمراقبته مساحة في عمق ملعب السيتي؛ وتقدم زينشنكو المبالغ  فيه بجانب الخطأ الساذج من روبن دياز وترك المساحة مفتوحة أمام هافيرتز لمراوغة الحارس.


 ولكن أزمة تلك المساحة ليست في التحرك الدفاعي أو حتى وجود لاعب واحد فقط في الدفاع؛ ولكن الانطلاق المجنون للهجوم من زينشنكو ووالكر؛ وترك جندوجان في وسط الملعب وحده خلف فراغات بين الدفاع والوسط، وهي المساحة التي بإمكان فيرناندينو قتلها في أي وقت بأدواره الدفاعية في التغطية خلف لاعب الوسط المنطلق.


توخيل والرهان على ثنائية كانتي وجورجينو.. للواقعية وجوه كثيرة

على الجانب الآخر؛ تشيلسي بطريقة لعب دفاعية في المقام الأول؛ 3 مدافعين من أصحاب القوة في الالتحامات؛ وواقعية في اختيارات وسط الملعب بالدفع بكانتي؛ وجورجينو ومعهم ماسون مونت كلاعب وسط ثالث يتحول لجناح في الحالة الهجومية؛ وكذلك أدوار دفاعية لكاي هافيرتز وتيمو فيرنر.

أكثر ما أثار إعجابي شخصيًا هو التحول السريع لهجمة تشيلسي وانطلاقات نجولو كانتي بالكرة وتعمقه داخل ملعب  مانشستر سيتي  لإجبار لاعبي الأخير على الانكماش في العمق لفتح المساحات لزملائه على جانبي الملعب؛ وكذلك تقديمه الأدوار الدفاعية المنوطة به مع زملائه في الفريق؛ إلى جانب الالتزام الدفاعي من هافيرتز ومونت وإغلاقهما المساحات في وسط ملعبهم وبين الوسط والدفاع وهو ما عجز لاعبي سيتي.

التزام اللاعبين بالتمركز الصحيح في وسط الملعب وغلق كل المساحات الممكنة أمام دي بروين، خاصة نجولو كانتي؛ صاحب الأرقام الرهيبة في المباراة، يزيد من دلالات التحضير الجيد من توخيل للمباراة، بالإضافة إلى الأدوار المميزة للوسط الإيطالي جورجينو في الدعم الدفاعي سواء لأظهرة الجنب أو العودة في بعض الأوقات للعب  كمدافع ثالث أثناء تقدم سيزار أزبلكويتا للتغطية خلف الظهير الأيمن جيمس.

وكذلك أدى جورجينو أدوارًا مميزة في عملية المراقبة اللصيقة لأحد لاعبي السيتي أثناء امتلاك لاعبي جوارديولا الكرة؛ وكذلك تغطية انطلاقات كانتي وتواجده في محور الوسط الدفاعي بمفرده أثناء الهجمات الزرقاء؛ بالإضافة إلى أدواره في عملية الضغط على وسط ملعب السيتي وحرمانهم من الربط مع لاعبي خط الهجوم؛ وهي أمور تعود بالمقام الأول لتوخيل وتحضيراته للمباراة قبل أن يشاد بلاعبيه.

استكمالًا للواقعية؛ وكأن توخيل رأى أحداث المباراة مسبقًا؛ الفريق بأكمله يعود لمنتصف ملعبه، حتى المهاجم والجناحين.. ارتكان دفاعي واضح وتضييق للمساحات؛ والاعتماد على مضايقة لاعبي السيتي في الخروج بالكرة من الخلف بالتحرك في زوايا التمرير من فيرنر وهافريتز ومونت.

وإن كانت الواقعية انتصرت؛ ولكن رهان توخيل في الشوط الثاني على الدفاع كان مجازفًا بعض الشيء؛ مانشستر سيتي زاد من ضغطه على دفاعات تشيلسي، وخلق ثغرتين خلف الظهيرين، الأيمن ريس جيمس والأيسر بن تشيلول وإن كانت الثغرة خلف الأخير أخطر.

الخطأ الأكبر لتوخيل في الشوط الثاني هو استمرار هافيرتز، والذي تسبب ضعف مردوده البدني في هذه الفترة لمنح زينشنكو حرية التقدم من هذه الناحية وإطلاق الحرية لستيرلينج قبل خروجه؛ 

آن الآوان أن يؤمن جوارديولا بوجود الله 

مباريات النهائي دائمًا ما تحسم بتفاصيل صغيرة؛ وتوخيل ألم بكل التفاصيل دون إفراط في التفكير؛ بكل واقعية وبمنتهى الهدوء.. طريقة لعب بسيطة بإغلاق المساحات جيدًا وفصل خطوط الخصم؛ وإرباك حركته والتحرك في المساحات بين خطوطه متوقعًا تقدمه بشكل جنوني للضغط؛ لكن هل انتصر جوارديولا لفسلفته؟ 

بيب جوارديولا رفض التخلي عن فلسفته؛ استمر في تفكيره الزائد والمجنون؛ ضغط عالي من الخطوط الأمامية وإجلاس مهاجمين لصالح جناح أكثر ما يجيده هو إضاعة الفرص؛ لا مركزية في الهجوم؛ رأينا محرز في الرواق الأيمن والأيسر وشاهدناه في قلب الهجوم؛ دي بروين ينطلق بكل مكان ويدخل للمنطقة وكذلك جندوجان؛ كل هذا ولم يقدم سوى تسديدة واحدة على المرمى من أصل 7 محاولات.


خسارة نهائي الأبطال رسالة واضحة من الله لجوارديولا؛ إن كنت مفكرًا عظيمًا فهو من منحك ذلك؛ عليك أن تؤمن بوجود الله؛ حتى إن كنت أعظم من وقف على الخط في تاريخ الكرة؛ ولا تؤمن به فهو قادر على إيقافك؛ على جعل فلسفتك وتفكيرك وعقليتك بل حتى تاريخك نفسه والعدم سواء.. جوارديولا أرهق نفسه ولاعبيه بالـ"أوفر ثينكينج" كثرة التفكير في كرة القدم؛ أحيانًا تحتاج الأمور لبعض البساطة والواقعية؛ لن يشير إليك الناس ويضحكون إذا تحليت ببعض البساطة وتخليت عن التعالي؛ لكنهم سيضحكون عليك عندما تنفق قرابة المليار يورو دون أن تحرز لقبًا واحدا لدوري أبطال أوروبا.. لا تنتصر الحياة دومًا للفلاسفة؛ بل تقف بجوار من يحترمها ويقدر قوانينها.

ليلة جوارديولا لن تكون هادئة؛ وإن كانت كذلك ظاهريًا، ولكن عقله لن يتوقف عن العمل طوال الليل؛ الأهم هو أن يدرك رسائل الله له ويعمل بها في حياته.